القوراشة في مرحلة المراهقة
د. محمد محمد المفتي
الـقــوارشـة قــرية على بعـد كيلومترات غربي بنغازي .. أو هكذا يقـول لك الناس. لكنها في الواقع جنوبي بنغازي. ثم هل مازالت قــرية؟
الـقــوارشـة كانت .. كانت قـرية جميلة يانعة وخصبة محاطة في ذاكرة الناس بهـالة من القـصص والحكايات .. وكانت بها محطة سكة حديد في زمن الطليان، هي اليوم مخزن في مزرعة. وإبان الحرب العالمية الثانية "جلت" (من جلاء) إليها كثير من عائلات بنغازي هربا من الغارات الجوية .. وأقامت الأسـر كلّ في غرفة .. وهـذا ما أضفى حميمية على تلك الأيام رغم ما اكتـنفها من رعب. ومنذ الخمسينيات وتلاميذ المدارس يزردون في أطراف الـقــوارشـة .. يلعبون ويغرسون الأشجار في فصل الربيع.. ويعودون إلى بيوتهم ليحكوا عن مغامراتهم التي تعززها الصور. الـقــوارشـة ريف جميل لمدينة الملح. أو هكذا كانت.
لماذا المراهـقــة؟
يبدو أن مصطلح المراهـقـة مشـتـق من الإرهاق ومكابدة التعب وهذا ما تعاني منه القوارشة! المراهقة تعنى أيضا الارتباك إذا فهمنا الكلمة على أنها فترة العمر بين الصبا والبلوغ .. فأنت في تلك السن لم تكن تعرف من أنت .. تتظاهر بالرجولة وأنت ما زلت صبيا في أعين الآخرين .. ويجنح بك الخيال والرومانسية في أحلام يقــظة لا يخرجك منها إلا عثرة في حجر وأنت تتأمل شباك بنت الجيران ..!!
كذلك الـقــوارشـة اليوم مترددة. فلم تعد القوارشة قرية لجفاف المنطقـة نتيجة انخفاض مستوى المياه الجوفية بها .. الذي تصر الجهات الرسمية المسئولة على عدم الاعتراف به .. لكن السواني شبه موات .. وشجر النخيل والزيتون الكالح دليل لا يدحض! وسترى في القوارشة بضع مراوح هوائية تركها الطليان لرفع المياه من الآبار .. مراوح محطمة، لكنها مازالت تدور مما يشهد على حسن صنعها وكفاءة صانعها.
زوم ع الـقــوارشـة
قـبيل البوابة على طريق طرابلس، تنعطف يسارا .. حيث كانت لافـتة كبيرة تقـول لك "بنغازي تودعكم" .. فهل إزالتها إعلان مضمر بأن الـقــوارشـة الآن حي من أحياء بنغازي؟
وتدخل الطريق المؤدي إلى مركز القـرية المظلل بأشجار الكافور (اليوكاليبتوس) المتعانقـة. والتي دخلت مرحلة الشيخوخة هي أيضا .. فـعمرها يقـارب الثمانين سنة. ولماذا لا نحاول تجديد هذا الممر الرومانسي بزرع أشجار جديدة بين القـديمة لتحل محلها ؟
وبعد قـرابة كيلومتر يفاجئك مبنى خراساني على اليمين .. وفعلا إنه المستشفى الليبي الأوروبي .. وتـتساءل كيف سـمح المهندسون أن يكون هذا المبنى الضخم على حافة الطريق مباشرة ودون ارتداد. ولا حتى شريطا لأشجار؟ وأمام المستشفى على اليسار محلان سوبرماركت.. تبشر بحياة المدينة القادمة.
وسرعان ما تدخل القـرية القـديمة .. وتلاحظ ارتداد المباني المتواضعة على ضفتي الطريق .. لتؤكد لك أن مهندسي زمان راعوا حرمة الطريق، وحرصوا على سلامة الناس.. في زمن كانت فيه السرعة القـصوى للسيارات .. 40 كيلومتر!!
كما تلاحظ صعود المباني والفيلات في وسط الأراضي التي كانت مزارع وأمست اليوم يـبابا لأن آبارها جـفـّت وانقـطعـت عنها الحياة. وأخيرا، إذ تتجه نحو الفعكات .. تـقـابلك شتى الورش ومصانع البلوك.
لماذا إذن الاصرار على تصنيف المنطقـة كأرض زراعية؟.. إنـه لا يعني سوى ديمـومـة البؤس. فلماذا لا نعترف بالواقـع ونسمح للقـوارشة بالنمو والتطور وبشكل منظم؟
المــــــاء .. ؟
الأرض الحمراء تغويك بزرعها .. لكن الشجر يحتاج للماء. ولكي أروي الشتلات التي زرعتها، كان علي أن أذهب إلى شركة المياه. وهناك عند مدخل فناء المبنى بجوار السجل المدني وجدت أربعة شباب:
- السلام عيكم
- وعليكم والسلام
- زعمك فيه حكومة هنا؟
- آآآهم .. كل المسئولين .. قـدامك .. من تريد؟ كما قـال المهندس علي الدرسي.
وسرعان ما امتدت جسور المودة والضحكات، ودخلت مع خالد ودبجت طلبا وأرفـقـته بأوراق إثبات الملكية .. وتذكرت الجد الذي آلت أرضه إلى أحفاده .. كان يحرثها كل خريف. لكنها الآن تبحث عن دور آخـر.
’’وبكره الساعة تسعة‘‘، قـال علي’’ تجينا ويطلع معاك رمضان والسباك‘‘. وفعلا جئت. وبينما كان نزار لمبع بن سـعود يحسب التكاليف، قال المهندس علي:’’ الناس مازالت موش متـقـبلة دفع مقابل عن الماء .. رغم أن الرسوم .. ربع جنيه للمتر المكعب بس .. للمنازل‘‘.
أكيد غياب الوعي، وعلينا أن ندرس مادة إسمها "المـاء" في مناهج الابتدائي. وثانيا ارتباط الماء بالأرض والوطن .. يعني شئ بديهي أن تجد ماء تشربه في وطنك. لكن الأمور تغيرت. متر مكعب من ماء الكـفـرة أو تازربو أو التشاركيات.. سعره خمسمائة دينار!!
وعلق نزار:’’ فيه مشكلة أخرى .. نحن غير الكهرباء .. الموظف يجد صعوبة نفسية في قطع الماء عن منزل .. لأنه سـيؤثر في الأم اللي تطبخ وفي الطفل وفي الجدة ..‘‘.
وارفــة بنـغـازي
معظم أحياء بنـغازي الجديدة جرداء قـاحلة .. والمدينة بحاجـة إلى امتداد مزروع مثـل الفويهات .. والـقــوارشـة مؤهلة لذلك، خاصة وأن غابات سهل الـقــوارشـة (أو مشروع الصـفـصـفة) قـد تقـرر تحويلها إلى منـتـزه .. وباقـي أراضي المشروع للتـقــسيم طـبعا.
القـوارشـة تحتاج إلى التـفـاتة جـادة .. أهل الـقــوارشـة اعترضوا على المشروع الإسكاني الأخير .. أكيد لعدم عدالة التعويض.
إذن لماذا لا يتم إدخال الـقــوارشـة للمخـطـط وتـترك الحرية للمالكين فيها لبيع أراضيهم وفـق المخـطـط وبأسعار السوق الحـقــيقـية؟ هم أولى من المضاربين !!
لماذا لا نجـعـلـها حيّا سـكنـيا مشـجـرًا؟ هكذا فـقـط نـنـقـذ ما تبقى من شجـر في القوارشة!
_____
.
