المجتمع الليبي

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المجتمع الليبي

منتدى اجتماعى ثقافي سياسي حر

مطلوب مشرف للمنتدى
Google

    للإصلاح مـهـرجـــان؟

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 118
    تاريخ التسجيل : 08/12/2009

    للإصلاح مـهـرجـــان؟ Empty للإصلاح مـهـرجـــان؟

    مُساهمة من طرف Admin الجمعة ديسمبر 11, 2009 11:28 am

    للإصلاح مـهـرجـــان؟
    للدكتور محمد محمد المقتى
    هذه الأيام نحن نعيش شيئا أشبه بالمهرجان الإصلاحي .. تصريحات وتدشين مشاريع، وقرارات تصدر، ومسئولين في الإذاعة يتحدثون عن مشاريع بالبلايين وعشرات الألوف من مواطن العمل المتوقعة للشباب الباحث عن عمل. وهناك الإعلانات في الصحف وعلى اللافتات العملاقة بالشوارع. وبين هذا وذاك ثغرات من الإرتباك ووعـود لا تتحقق، ولحظات شك وغضب وتدني الثقة والمصداقية .. نفترض أنها جميعا انعكاس لآداء الأجهزة الإدارية .. القادرة مثلا على خلق أزمة خبز في بداية رمضان! من جهة أخرى سرعان ما يصبح الكلام عن الإصلاح قديما وغير ذي دلالة، إذ تتجاوزه خلال ساعات أحيانا، القرارات واحتفالات توقـيع العقـود.
    لكن ثمة حقائق أساسية في عملية الإصلاح/ التحديث .. وهي أنها معقدة جدا، وبطيئة، ومتداخلة، وبالتالي قد لا تكون نتائجها إيجابية في كل الاتجاهات .. بل إن عملية الإصلاح والتحديث قد تكون مؤلمة. فأنت مثلا لزيادة كفاءة آداء الإدارة ستضطر إلى الاستغناء عن نسبة من الموظفين، ولو أردت توفير مياه الشرب فـستقـضي على الزراعة لأن بإمكاننا أن نستورد القمح والطماطم بأرخص مما ننتجه هنا .. وهكذا.
    ولابد إذن من البحث عن صيغ للإصلاح تتوخى العدل والرأفة، وترضي تلهف المحرومين .. وإلا قاد الإصلاح نفسه إلى مزيد من الشك والتذمر والفوضى.
    ونــــدوات
    قبل أسابيع، حضرت ثلاث جلسات أو ندوات عن التنمية البشرية ومستقبل الثقافة، ضمن مشروع " ليبيا سنة 2025 " الذي دشنته أمانة التخطيط، لوضع استراتيجية وطنية يستضاء بها في تحقيق التحديث المنشود. للأسف، لم أحضر ندوة السياسات العامة التي انعقدت بالجامعة قبل ذلك. وكان معظم المشاركين من الأكاديميين، وخاصة علماء الإدارة والاقتصاد، وقـلة من رجال الفلسفة والعلم والمثقـفـين. واتسمت الأوراق والنقاشات باتفاق عام على ما أصاب البنى التعليمية والصحية والاقتصادية وغيرها، من تقهقر نتج عن التسيب والفساد الإداري، خاصة ما رافق تجربة القطاع العام من فقدان الكفاءة والجدوى الاقتصادية. وتحدث الجميع بحرقة وروح مسئولة. وألح البعض على ضرورة دراسة أسباب هذا التردي أولا كمدخل لوضع الحلول الناجعة.
    تشخيص ..؟
    مشروع " ليبيا سنة 2025 " يأتي كاستجابة مكملة للدراسة التي اضطلع بها الاستشاريون الأمريكيون البروفسور بورتر ومساعـدوه. وقد أفاد تقرير بورتر من الدراسات العالمية المقارنة لتقييم أوضاع الكفاءة الإدارية والتعليم والصحة والبنية التحتية، والبطالة والإنتاج الاقتصادي، والفساد والشفافية، وصولا إلى اختراقات حقوق الإنسان وتخلخل نزاهة القضاء، وغياب مؤسسات أهلية مستقلة من المنتديات إلى الجمعيات الخيرية. والواقع أن تقرير بورتر في نصفه التشخيصي يترك في النفس إحساسا بالحزن، لأن ليبيا، وفق كل المؤشرات، ما تزال في آخر القائمة بين دول العالم باستثناء، دخلها النفطي العالي.
    الإصـلاح .. تـحديث
    هناك مصطلحات قد يثير تعريفها الخلاف. بل إن مصطلح "الإصلاح" قـد يثير حفيظة المسئول الإداري، لأنه ضمنيا يدين كل ما سبق إنجازه كما لو كان خطأ من البداية. ولابد من باب الإنصاف أن نقر بأن الكثير قد تحقق: الطرق، الإسكان، المدارس ..الخ. لكنها تعثرت لسوء الإدارة أو لأن ما أنجز في المجال الإقتصادي وقع في حبائل القطاع العام.
    وفي الواقع، إن ما نسميه إصلاحا هو نوع من التحديث .. ومصطلح التحديث أكثر دقة لأنه يأخذ في الاعتبار التطورات العلمية والتقنية وتطور الاقتصاد الدولي والسوق العالمية. فمثلا حقق اختراع المحرك البخاري حوالي سنة 1705، ثورة صناعية بقطاراتها وسفنها، غيرت وجه العالم واستمرت قرابة قرنين. لكن اختراع محرك الاحتراق الداخلي في أواخر القرن 19 الذي أعطانا السيارة والطائرة والأكثر كفاءة في إدارة المصانع، جعل المحرك البخاري يبدو بدائيا ودون قدرة على المنافسة. وفي منتصف الخمسينيات اكتشف النايلون ومن بعده خيوط البوليستر وأثر ذلك على زراعة القطن وصناعته. وبالمثل وإلى سنوات قليلة كانت هناك مصانع الأنابيب المجلفنة لمواسير المياه، والآن فقدت جدواها باختراع المواسير البلاستيكية. وبالمثل أدى ظهور الهواتف المحمولة إلى دفن معظم الصناعات القائمة على خطوط الهاتف الأرضي. ويمكن ملاحظة نفس الظاهرة في كل المجالات. مثلا قبل عشرين سنة فقط لم تكن لدينا في الطب، أجهزة التصوير بالموجات فوق الصوتية ("التلفزيون") أو التصوير المقطعي ("السكانر") التي تجعل كل ما سبقها من وسائط التشخيص تبدو الآن بدائية رغم أنها كانت مذهلة في عين أبناء جيلي الذي تخرج في آخر الستينيات.
    التحديث إذن يفرضه تطور الحياة والمعرفة .. فأنت مثلا بحاجة إلى بناء المزيد من المساكن لمواكبة التكاثر السكاني .. وأنت أيضا ملزم بمواكبة التطور العلمي والتقني، كأن تتبنى النظام الرقمي (الكمبيوتر) لتخزين المعلومات كما فعلت إدارة الجوازات بإدخال ما أسمته "الرقم الآلي" الذي يتيح لضابط الجوازات في أي مطار لدينا أن يستخرج ملف المواطن الواقف أمامه خلال دقيقة.
    كل ما هنالك أن وتيرة التطور اليوم تتم بإيقاع أكثر سرعة، ومن هنا كانت الحاجة إلى المراجعة والتطوير والإصلاح .. وهي كلها تندرج تحت مصطلح التحديث الأكثر دقة.
    وجلي أننا بحاجة إلى تحديث شامل، خاصة وأن مشاريع التنمية لدينا توقفت منذ ربع قرن. وهكذا يصبح الإصلاح المطلوب هو إصلاح الإدارة وآلية اتخاذ القرارات لوقف التسيب وإهدار المال العام، والحد من الفساد ورفع كفاءة الآداء.
    الدولة .. ديناصور
    في سياق ما قلناه تبدو أجهزة الدولة الليبية أشبه بديناصور فاته ركب التطور منذ زمن. ومثل الديناصور أمست الإدارة عندنا بطيئة الاستجابة، وإذا تحركت فإنها تسبب ضجيجا وغبارا ودمارا تجعلك أحيانا تندم على إيقاظها. فإذا طالبتها بصيانة مستشفى الهواري (سعة 500 سرير) أو المستشفى الوحيد في المرج مثلا.. فإنها قادرة أن تبقـيها مغلقة وراء شبكة السقالة، لأكثر من عشر سنوات .. وحى الآن !
    لكن الدولة طبعا ضرورية لتولي مسئولية كل ما يمس أمن واستقرار المجتمع، من حماية الوطن إلى تطعيم الصغار ضد شلل الأطفال.
    الخلل يكمن في أن الدولة استحوذت على مسئوليات تفوق قدراتها، بل خارج هذا الدور الذي أشرنا إليه. وهكذا أصبحت مالكة للشقق وموزعة للثلاجات والأفران ..الخ. هذا التجاوز جاء وليد عاملين. الأول أن المجتمعات المتخلفة أو التقليدية أو دول العالم الثالث، سمّها ما شئت، بدت بحاجة لجهد تنظيمي واسع لتحقيق نقلة تنموية سريعة وواسعة. ومن هنا ولدت خطط التنمية الخمسية وغيرها. ولهذا أيضا اخترعت الدولة ما سمّي بالقطاع العام .. متناسية أنه يحرم المواطن من حق العمل لحسابه ومن حافز الربح .. ويقـود بالمقابل إلى سلسلة لامتناهية من هدر المال العام وعدم الكفاءة.
    مثلا، كل منا مرّ بتجربة نفاذ البنزين من خزان سيارته. وعندها يتجول بحثا عن محطة شغالة لشركة البريقة .. هذه مغلقة في انتظار وصول شاحنة الوقود، ويسأل لماذا لا يعبئون خزانات المحطات بعد منتصف الليل؟ ولماذا كلها تعبأ في فترة واحدة؟ ألا يجب أن يكون هناك جدول؟ وتلك المحطة بها بنزين لكن الكهرباء مقطوعة؟ والمولـّد؟ فيجيبك: البطارية طايحة! وبمزيد من التجوال، تكتشف ما لا تنتبه له عادة: أنه لا توجد إلا محطة واحدة في كل من طريق الجامعة وطرابلس وطريق المطار، وفي الحالين في بداية الطريق. ولا توجد محطة بالمرة في طريق القرية السياحية، أو القوارشة أو الهواري إلى مصنع الإسمنت، أو الطريق الدائري الثالث من فندق أوزو إلى السلماني أو الكورنيش إلى اللثامة .. وهلم جرا. وربما تمر نصف سيارات بنغازي يوميا على هذه الطرق. أما حي الحدائق فلسبب ما به محطتان متقابلتان.
    وهكذا تقتنع بأفضلية وجود عدة شركات توزيع بنزين متنافسة !! ولم لا تمنح رخص لمواطنين وتحت إشراف وبمواصفات شركة البريقة؟ نعم ليربحوا، ولكنهم سوف يقدمون خدمة أفضل للناس. فالحقيقة الأزلية هي أن المواطن إذ يسعى لكسب رزقه ويجني ربحـًا، فإنه يخدم المجتمع دون أن يدري وربما دون أن يريد!
    طبعا بعض الدول مثل ليبيا، تعاني من مأزق آخر. مواردنا الطبيعية العادية محدودة جدا. و97% من دخلنا القومي يأتي من النفط، الذي يؤول إلى الدولة، وهو ما يمنحها سلطة وصلاحيات .. فتتحول فعليا إلى موزع للمرتبات.. وبذلك تطمس كل الحوافز التي يحتاجها الإنسان للعمل، فيعتريه الكسل والتواكل والكسب الرخيص والاعتداء على المال العام.
    الخلاصة أن الدولة أصبحت اليوم مثلها مثل الشركات العامة، أشبه بديناصور هائل البنية ومحدود الحركة وهزيل الاستجابة، وأمسى مآلها الانقراض.
    التنمية.. كيف؟
    كيف تتم التنمية؟ سؤال قد يبدو بسيطا أو حتى ساذجا. عايش جيلي منذ الخمسينيات فكرة التنمية العريضة المتوازية .. مشاريع من كل نوع وفي كل مكان .. خطط عريضة ومتفائلة .. وهكذا. وسمعنا ورأينا .. أولا في مصر عبد الناصر، ثم في بلادنا هنا. لكن النتائج لم تكن بنفس حجم التفاؤل.
    من البديهيات العلمية اليوم، أن أي تغير في التوازن البيئي مهما كان ضئيلا، في أي بقعة من الأرض .. سيكون له تأثيره الكوني. فأن يشعل أحدهم نارًا في القطب الشمالي، فإنه سيؤثر على المناخ الجوي على سطح الكرة الأرضية. طبعا التأثير بسيط في هذه الحالة، لكنه تراكمي .. فنحن نعرف مثلا أن غاز ثلاجتك أو مكيف الصالون في بيتك .. هي من أسباب الاحتباس الحراري الذي قد نلمس تأثيره الآن في جو صاف وبارد نسبيا على بنغازي هذه الأيام، لكنه سيقود إلى كوارث في مستقبل ليس بالبعيد .. مثل غمر البحر لنصف الأراضي الزراعية في دلتا مصر خلال عقود قريبة!
    قصدت من وراء هذا الاستطراد أن أشير إلى فكرة أن التنمية إنما تتحقق ببذر مشاريع صغير، ستنمو إن كانت لها جدوى، وستحقق خلال فترة معقولة ما هو مطلوب.
    وكثيرا ما أشرت في نقاشاتي إلى تجارب حدث عندنا هنا .. ففي سنة 1953 مثلا لم يزد عدد المتخرجين من الجامعة في كل ليبيا عن عدد أصابع اليد الواحدة، ويمكن للمرء أن يتذكرهم بالإسم. جاءت اليونسكو، (منظمة الثقافة التابعة للأمم المتحدة) فأسست معهدين للمعلمين وآخر للمعلمات. أعطتهم مرتب خمسة جنيه في الشهر. وكان عدد طالبات المعهد حوالي خمسة. تلك المبادرة البسيطة قادت إلى نتائج هائلة. ولك أن تتأمل عدد الخريجين والطلبة اليوم .. فمن التوجيهية فقط، سيقف على أبواب الجامعات هذه السنة مائة وخمسين ألف شاب وشابة!
    المؤسسات الأهلية ؟
    ضمن المصطلحات الملتبسة في جدول الإصلاح، مصطلح "المجتمع المدني" الذي يضيق به البعض لأنه يثير لديهم إحساسا بأنه مشروع أجنبي مفروض من الخارج. وقد نشأ في الواقع كرد فعل لوجود الدولة كمؤسسة تكاد تنفرد بكل ما يتصل باستقرار وازدهار المجتمع. خاصة وأن الدولة كمنظومة إدارية، خاصة في الدول النامية فشلت في تحقيق التنمية المطلوبة، وبدورها عالجت كل نقد لقصورها بمزيد من الكبت والعسف.
    والواقع أن تقليص دائرة نفوذ الدولة، ليست أمرا حديثا، فقد بدأت في أحد أطوارها الأساسية، مثلا في انجلترا في منتصف القرن17 ، حين انتزع البرلمان أو مجلس العموم من الملك حق التصرف في عوائد الضرائب. ثم كانت الثورة الفرنسية من أجل فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
    قبل ذلك، كانت بعض المجتمعات ومنها العربية والإسلامية، تتمتع بقدر واسع من المبادرة الأهلية. فكان القضاء في أيدي الفقهاء، وكانت هناك مؤسسات الوقف على الملاجئ والمساجد والمدارس.. الخ.
    إذن مؤسسات المجتمع المدني ليست سوى توسيع لدائرة المبادرة الأهلية، بحكم تنوع المناشط الذي فرضه تطور الحياة. فقد عرف المجتمع الحديث الصحافة والتنظيمات النقابية والجمعيات المهنية، والمصارف، وشتى المؤسسات الخيرية.
    ويبدو من تجربة المجتمعات المتقدمة أن مثل هذه المؤسسات أقدر وأكثر كفاءة في إدارة مشاريعها لأنها تتعامل مع طموحاتها بحماس ونزاهة.
    ما دور العلم؟
    من جهة أخرى، يبدو أن الجميع كمتخصصين في أمور التنمية والإصلاح، قد وصلوا إلى قـناعات متشابهة، ويتطلعون أيضا لحلول أو برامج إصلاحية متقاربة. وضمن تلك المقترحات تكررت كلمة "العلم والتقنية" .. خاصة بالتأكيد على دور العلم في إصلاح المناهج التعليمية وإعداد الأجيال الشابة لدخول سوق العمل الذي أمسى غابة من التقنية بدءًا من أبسط الصناعات إلى تقنية المعلومات.
    ورغم اتفاقي دون تحفظ مع هذه الرؤى، إلا أنني أرى أيضا ضرورة التنبيه إلى منظور مغاير. فقد نشرت أول دراسة لي، قبل ثلاثين عاما بعنوان "العلم والتقنية ومستقبل الوطن العربي" .. تطلعت فيها إلى أفق التنمية والتطور مع نهاية القرن العشرين، بروح متفائلة، مستشهدا بما توفر من إحصائيات ذلك الزمن، وتطوراتها المتوقعة حسابيا.
    لكن المذهل والمخيب للأمل أن ثلاثين عاما مرت، ولم يتقدم العرب، بل تقهقرنا تدريجيا نحو مزيد من البطالة والأمية والاستهلاكية السلبية والفساد. ومن العرب من انزلق بسرعة إلى قرون موغلة من انهيار الدولة الحديثة والصراع الطائفي والمجاعات.
    هناك درسان. أولا السياق العربي يظل أساسيا للتنمية والتحديث والإصلاح في أي قطر عربي. بل، في اعتقادي، لابد من توسيع دائرة السياق ليشمل دول الجوار والمحيط الإقليمي، لأن ما قد يحدث عند دولة جارة من أزمات أو أوبئة أو بطالة أو مجاعة، سيُصَدّر عبئه إلى المجتمعات المتاخمة. قد تغمرنا مضاعفات وأزمات مجاورة، كالغزو البشري (لاجئين)، الذي ينشأ عن حرب أهلية أو وباء أو مجاعة. وثانيا، ليس عام 2025 بعيدا كما أفصح بعض الأكاديميين الشباب، فالزمن يأتيك بأسرع مما تعتقد!
    وقبل سنوات وضعت كتابين من باب المراجعة، "توطين العلم أولا" (عن مجلس الثقافة)، وكلمة "أولا" ترد في العنوان من باب الإلحاح. ثم كتاب "توطين العلم والتقنية: الطموح والمعوقات" (عن الهيئة القومية للبحث العلمي) تلمـســًا للعوائق وتفـسير ما حدث أو على الأصح ما لم يتحقق.
    والمقصود بتوطين العلم والتقنية هو استيعابها بحيث نستطيع انتاجها كما فعلت اليابان قبل قرن ونصف، وكوريا الجنوبية وسنغافوره وماليزيا في العقود الأخيرة. فتوطين العلم هو المدخل الوحيد للازدهار والقوة. ونحن بحاجة إلى تأمل تجارب هذه المجتمعات وعجز مجتمعاتنا بصدق وجسارة، رغم أنها بدأت مسيرتها في نفس الزمن الذي ظفرت فيه دول عربية باستقلالها وفوق ذلك بثروة النفط!
    الحــل الثـنــائي
    ولا يجب أن يفهمني القارئ بأنني أريد أن أحقن ساحة الحوار باليأس، وإنما هي دعوة للتواضع والحذر من التفاؤل المفرط، وضرورة توخي الجدية وربما طرح خطـّـان متوازيان من الحلول .. حلول فورية وأخرى طويلة المدى. والبرامج الفورية ضرورية لأننا مثلا نواجه بطالة عالية (حوالي 30% من الشباب) وفقر (حوالي ربع السكان) وبنية تحتية إما قاصرة أو مهترئة أو غير موجودة. وهذه حقائق لها مضاعفاتها الخطرة والتي يمكن أن تتفاقـم ويفلت زمام السيطرة عليها.
    علماء الإدارة والاقتصاد يميلون مثلا إلى الحديث من خلال نماذج نظرية متفائلة بطبيعتها .. فيقولون لك "إذا أنت فعلت كذا سيتحقق كذا" .. وهم بذلك يفكرون في هذه الظواهر الاجتماعية كما لو كانت محاليل كيماوية، فإذا أضفت أ إلى ب حصلت على ج. لكننا في المجال الاجتماعي والاقتصادي، نصادف متغيرات هائلة العدد والتأثير، مما يضعف الثقة في توقع النتائج وحتميتها.
    نحن إذن بحاجة إلى مشاريع أو برامج فورية وسريعة وجادة، لإيقاف التدهور .. كما يفعل الطبيب في إنعاش حالة في غرفة العناية المركزة. وأخرى على المدى البعيد.
    أيها السادة .. في فترة الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة .. إبان الثلاثينيات .. أجرى عالم الاقتصاد الكبير ماينارد كينز Keynes إصلاحاته على النظرية الرأسمالية وأكد على ضرورة تدخل الدولة بالإنفاق للتعويض عن عجز القطاع الخاص في فترات الركود. وتبنى الرئيس فرانكلين روزفلت مقترحات كينز وخاض الانتخابات تحت شعار " الصفقة الجديدة" New Deal، ووفر فرصة العمل للعاطلين " بحـفـر الحفر ثم ردمها" فقط لكي يمنحوا أجورا ويحتفظوا بكرامتهم ويزداد الطلب، فينتعش الاقتصاد من جديد.
    صـور من الواقــع
    الإنسان تحركه مصلحته ولاشك ، وهذه قد تتضخم فتصبح أنانية وتنحرف فتمسي طمعا وحسدًا أو نصبًا واعتداء .. وبالمقابل فإن الإنسان إذا مسّه الخير أمسى حريصا، وبعضهم مَنـُوعًا يده مغلولة إلى عنقه من باب البخل قد يبرره هو بأن الآخرين طامعين في رزقه أو يحسدونه على ما حقق من نجاح. أما حين تتضرر مصلحة الإنسان وتصادر أحلامه فإنه سيشعر بالتذمر والقلق والإحباط والغضب.
    يصدق هذا على المواطن الليبي والمواطن السويدي والأمريكي .. ولعل أقرب الناس للمواطن الليبي في إدمان الشكوى هو المواطن الإنجليزي! مع الفارق في ما يحظى به الإنجليزي من حماية قانونية وقضائية حقيقية ، أومن قبل جمعيات حماية المستهلكين ، ورقابة النوعية ..الخ. لكن .. الهمّ فيه ما تختار كما يقولون.
    مثال بسيط : أب وأم يدخلان الساعة 8 مستشفى الأطفال يحملان إبنهما الصغير المريض .. ويدخلان عبر طابور المنتظرين ، على الطبيبة المناوبة الوحيدة بعد منتصف الليل .. وهذه تكتب الوصفة لكن الدواء لا يتوفر بالمستشفى .. والصيدليات الخاصة مغلقة .. من حق المواطن أن يشكو ويكرر القصة لكل من يقابله لأيام. وتتوالد الأسئلة من جوف هذه الواقعة: طبيبة واحدة لكل المدينة ؟ ولماذا تغلق المراكز والعيادات المجمعة ؟ .. و .. و .. [وهذه القصة ليست من وحي الخيال بل تحدثت عنها الإذاعة المحلية].
    القصة تلخص اشتباك المواطن مع الدولة .. وخذ على هذه الشاكلة ، عبر الطرق المحَـفــّرة، والمجاري، ثم البطالة وأزمة السكن، حتى تصل القروض .. ناهيك عن ليبيانا التي باعت مليون شريحة لكن دون قدرة على توفير اتصال لعشرات الآلاف، ولا أكثر من كلمة آسف بصوت الأنثى المسجل لتخبرك أنه لا اتصال أو خارج التغطية.
    ليس الأمر مجرد إهمال وتقصير. فصاحب القرار في أي أمانة لديه أيضا جدول أولويات، يقدم هذا المشروع على ذاك. وقد لا يكون محقا، وهناك التسيب وفساد الذمة.
    أين المختنق؟
    لا أحد يستطيع أن يوجز مأساة الإدارة الليبية ، أكثر من محاولة المواطن الغاضب (عبد السلام بوقنده) إلقاء نفسه من فوق سطح عمارة ذات العماد في فـقـرة "هي هكي" في شهر رمضان الماضي.. وهو يخاطب الأمناء ورجال الدولة المتجمهرين لإثنائه عن الانتحار.
    الخلاصة أن هناك اتفاق عام بين المسئول ورجل الشارع وصولا إلى تلاميذ المدارس ، وعامل محطة البنزين، والعامل الوافد، والأجنبي الزائر، بأن الإدارة الليبية عديمة الكفاءة وموبوءة بالفساد بكل أشكاله: التسيب، المحسوبية .. وهي ظواهر واضحة وملموسة.
    وهناك الرشوة والنهب الخيالي .. أقول خياليّ ، بالنظر لحجم الأرقام المتداولة .. وخيالي أيضا بمعنى أن لا أحد رآه حقا .. شئ مثل الجن وعين الحسود .. فالمنظور ليس أكثر من المساكن الفارهة وسيارات الدفع الرباعي للأبناء والبنات، والمجوهرات الباهضة في الأعراس، ومظاهر ترف مفرط هنا وهناك. ربما يخشى ذوي الثراء الجديد أن يعرف الناس ما اكتنزوا من المال العام .. أو لعلهم في تواضع بيل جيتس صاحب شركة الميكروسوفت وأغنى رجل في العالم، الذي يردد أن بلايينه مجرد أرقام على كشف المصرف .. ولم تؤثر في حياته اليومية .. لكن الرجل تبرع في بداية هذا العام بثلاثين بليون دولار لمكافحة الآيدز في أفريقيا!
    بغض النظر عما أهدر، تظل المفارقة المحزنة والتي لا تخطئها العين ، هى تقهقر قرانا وواحاتنا ومدننا الصغيرة إلى قرون سابقة في مستوى معمارها وخدماتها .. مشفوعة بالكذب المفضوح لدى المسئولين على صفحات الجرائد المحلية وخاصة في الإذاعات المحلية. وأقول مفضوح لأنك تسمعه في حوار يتحدث عن المخططات واجتماع اللجان وانعقاد ندوة بتوصيفات مضخمة .. ناقشت ووضعت وقررت تفعيل وخصصت .. وحين يسأله المذيع " طيب .. هذا منذ سنة كذا .. فماذا تحقق حتى الآن" ويجيب ببلاهة تفرضها مفاجأة السؤال " الحقيقة لا شئ، مازلنا ننتظروا .. ".
    من جهة أخرى، الليبيون ما يزالون بخير، أنقياء طيبون كرماء شهمين بما في ذلك كثير من موظفي الدولة. وأبسط شئ أنهم لا يعرفون البقـشـيش ومعظمهم لا يعرف الغش في البيع اتقاء لأثر المال الحرام على ذريتهم. ولكنهم كأي جماعة بشرية يخضعون لمنحنى التوزيع الطبيعي بلغة الإحصاء، فيهم العبقـري والغبي، وفـيهم الطيب إلى درجة القداسة وفيهم الخبيث. وتبقى الأغلبية تحتل الجزء الأكبر والأوسط من مساحة المنحنى، فهم بشر عاديون كغيرهم من خلق الله. ولا ننسى أن الشريحة المفـسدة صغيرة جدًا جدًا إذا حسبناها نسبة إلى عدد السكان !
    للمشكلة روافد أخرى. فالإدارة لدينا ولفترة طويلة، احتكمت في اختيار الناس إلى الولاء بدلا من الكفاءة، وإلى الولاء القبلي والأمني بالدرجة الأولى. وتكـَرّس هذا بتبني أسلوب " التصعيد" العلني بدل الاقتراع السري. والنتيجة اختيارات لا علاقة لها بمفاهيم ومتطلبات إدارة مدرسة أو مستشفى أو غيرها، بل أصبحت القبائل في أي منطقة تتقاسم الأمانات سلفا، والنافذين في القبيلة بحكم الفهلوة أو الفتوة يختارون ممثلي الشعب! بينما عولج تفاقـم الفساد بمزيد من التقشف منعا لإهدار المال العام، وهذا بدوره أوقف عجلة التنمية والتطوير.
    ومع ذلك فإن ما تحقق في كل المجالات كثير ، لكن البشر ينسون. الكهرباء دخلت كل بيت وكذلك مكملاتها من تلفزيون وثلاجة . كما أن مياه النهر الصناعي أنقذت المدن من عطش لا يبقي ولا يذر. لكن معدل التكاثر السكاني ( لقد تضاعف تعدادنا خلال ربع القرن الماضي) جعل الأمور وكأن شيئا لم يكن. كما إن توقف مشاريع الإسكان والمرافق والمدارس مثلا خلال تلك الفترة، عمق الشعور بالخيبة.
    حسنا. بدأ تصحيح الأمور. أعيدت معايير الكفاءة في اختيار المسئولين (سنين الخبرة، المؤهل). وشرع في حل مشكلة الملكية العقارية، والذي لابد أن ينجز بأقصى سرعة إذا أردنا تحريك الاقتصاد الراكد.
    تبقى المفارقة الأخرى، وهي أن دخل ليبيا الآن يتجاوز ملايين الدولارات يوميا .. صافي، فلماذا كل هذا الارتباك والتعطل والمعاناة ؟
    صحيح أن بعض الحلول التى تبدو بديهية ، يعترض عليها الخبراء. مثلا هناك تصور علمي يقـول به خبراء الإقتصاد بأن التقـشف في الإنفاق العام ضروري، وأن ضخ النقد سيقود إلى التضخم.
    وعلينا أيضا أن نتقـبل أن ليبيا مثل كل دول النفط دولة ريعية تعيش على عـوائد كما لو أنها أتت من السماء، لأنها ثروة لا تنتج بجهد مواطنيها. 3% فقط من السكان يعملون في قطاع النفط. ولابد أن تقوم الدولة بمعظم الاستثمار. والثروة الريعية لها آثارها السلبية على سلوكيات الناس، مثل الكسل والتواكل وعدم الإحساس بالمسئولية تجاه المال العام.
    إقـتـفاء الأثر ؟
    لهذا كله أود أن أتحدث خارج هذه الدوائر.
    ويبقى من الصحيح أن ’’ الحرة أول ما تزرّب بيتها ‘‘. . أي أن ربة البيت النشطة ، أول ما تفعله بعد أن تـُنصَب خيمتها ، أن تحيطها بسور من جذوع الأشجار.
    إذن ما الحل ، و كيف؟
    وصحيح أن الحكومة حبالها طوال، لكن المشكلة قد تكون في أسلوب المقاربة أي زاوية التناول. وهنا نجد مثلا آخر لعله يصدق على حالنا. . ويقال حين يرى المرء آخرين يبحثون عن شئ، رغم أنه يري رأي العين .. ثعبان مثلا أو ذئب مر بحضيرة الغنم (مراح السعي) .. أو ناقة ضاعت .. ومع ذلك يصرون على اقـتـفاء أثره، وعندها يقال ’’ تسيبوها بالعين وتقصوها بالجــِـرّة‘‘ .. أي تتعامون عن رؤيتها ثم تتقـصون أو تتبعون أثرها.
    هذا اللامنطق هو ما يسم تعامل الدول العربية مع ما تواجهه مجتمعاتنا من معضلات، وهي مشاكل هائلة وتهدد وجود العرب مباشرة: نضوب المياه ، تقلص الرقعة المزروعة والاعتماد المتزايد على الغذاء المستورد، تفاقم التلوث، عجز عن تأهيل الشباب لسوق العمل ..الخ. وأحد الأسباب الكامنة وراء كل ذلك هو التكاثر السكاني المنفلت ، وتلكؤ الدولة العربية عن تطبيق برامج تحديد النسل كمدخل أولي لمنع تفاقم كل هذه المشكلات.
    نحن إذن بحاجة إلى إصلاح. الكل يريد الإصلاح. طبيعة المرحلة تستدعي الإصلاح.
    حتى العالم يطالبنا بالإصلاح. مثلا بعض الشركات الأجنبية، كانت تتعامل بالتكليف المباشر ومنها من كان يقبل بإضافة حتى 50% أو أكثر، لصالح من يوقع العقد. الآن الشركات الكبرى تريد الاستثمار في ليبيا وفق قوانين السوق .. أي التنافس الشريف نسبيا .. وترفض دفع مثل تلك الأرقام الضخمة، لأن كل منها تريد المنافسة والحصول على عـقـد. ليس الأمر مسألة أخلاق لكن حتى تنال كل منها فرصتها.
    المصانع الأوروبية والأميركية وغيرها، تريد أن تبيع لنا منتجاتها، أي أن ننفق من عائدات البترول على أنفسنا .. هذا إذا أردنا أن يبقى الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أصدقاء لنا.
    عدد الفقراء قارب 20% من الليبيين ، وعدد العاطلين بين من هم في سن العمل ، أعلى من هذه النسبة. وحين أسأل شابا عن عمله ويرد "خريج كذا " .. " لي أربع سنين من غير شغل" .. " عاطل .. في الحوش" ، أو تدخل عليك شابة خريجة جامعة " ندوّر في شغل .. مستعدة ندير أي حاجة .. حتى عاملة تنظيف .." ، حينها لا أشعر بالشفقة وإنما أشـعـر بالرعب !
    أي إرث نتركه للأجيال القادمة؟
    ماذا ننتظر ؟
    بواعث الإصلاح ليست فقط الشفقة والإحسان والرغبة المثالية في إحقاق العدل. الإصلاح استباق للفوضى وعدم استقرار المجتمع، بإجتـثاث مصادرها .. وأولها الفساد. وما الفساد ؟ إنه عجز آليات الدولة عن وضع حد لطمع فئة أو فئات من أفراد المجتمع في الاستحواذ وإهدار الموارد.
    نحن بحاجة ربما لنصف مليون مسكن، بشكل عاجل بطريقة البناء الصناعي. وهاهي شقق مشروع السبعة آلاف، قائمة ولم تتقـشر واجهاتها بعد عشر سنوات من عجاج بنغازي. لكن لكي يتحول إلى واقع، بحاجة إلى ترجمته إلى قرارات وخطط تنفيذية،. فهل الدولة الليبية قادرة أو راغبة؟ الدولة كمؤسسات تخطط ، وتضع جدول أولويات، وتنفذ ، وتراقب وتردع.
    استباق الفوضى يعني أيضا بلغة الأرقام أشياء مثل خلق فرص عمل لربع مليون عاطل، وفرص عمل ودخل وسكن وخدمات لمائة ألف شاب وشابة ، يدخلون سوق العمل سنويا (أي يخرجون من دائرة التعليم العام سواء باستكمال دراستهم الجامعية والمعهدية.
    الحِـبّـــيْـلَـة
    يبدو لي أن عبارة ركود الاقتصاد المحلي يمكن أن تلخص لنا مشكلة المجتمع الليبي الآن، وهي من مضاعفات التكاثر السكاني من جهة وعجز الدولة من جهة أخرى عن استباق المشاكل. ويكفي أن تتأمل أعداد من يدخلون امتحان الشهادة التوجيهية وامكانية استيعابهم سواء في الجامعات أو في سوق العمل .. إنها شهادة إلى حافة هاوية، لا ينقذك منها سوى الغش والكذب والتحايل .. أو المخدرات! هذه السنة دخل امتحان التوجيهية أكثر من 180 ألف نجح 85 ألف، في الدور الثاني سينجح 70 ألف آخرون. لدينا 150 ألف. هل لدينا معاهد وجامعات تستوعب هذا العدد؟ إذن سيحرم ألوف إما من مواصلة دراستهم أو من الالتحاق بالمجالات التي يرغبونها. النتيجة أننا نحقنهم بشحنة غضب، دون سبب!! وشئ شبيه يحدث في منح القروض، بل وفي بيع السيارات.
    العقــــار والثــقة ؟
    من أقوال آدم سميث الاقتصادي الإنجليزي الذي وضع أسس النظرية الرأسمالية، أن الناس قد ينسون أقاربهم الذين فقدوا في حرب ، لكن المرء لا ينسى ما أغتصِب من ثروته. هذا يقودنا إلى مشكلة العقارات. الملابسات كثيرة، لكن المهم نحن الآن في خضم مشكلة متعددة الوجوه. وعليه:
    • إن تعويض الناس عما أخذته الدولة من أملاكهم، أو ردها لهم حين يكون ذلك ممكنا، سيعني إعادة الثقة للمواطن في اقتصاده .. أولا وأخيرا.
    • التعويض سيمنح أو يعيد ثروات مجمدة إلى أهلها ، ويعود للاستثمار محليا ويحرك عجلة الاقتصاد.
    • السماح بالتأجير يتيح للمالك استعادة جزء مما استثمر وشيئا من الربح لكفاية معاشه ولمزيد من الاستثمار. العقار باقي، أو أصول ثابتة كما يقال، لكن دخله ينساب عبر الدورة الاقتصادية العامة. فإعادة الاستثمار العقاري يعني أيضا تشغيل مزيد من الناس ، كما سيساهم في حل مشكلة السكن. وهذا معنى ما قلناه من أن المواطن في سعيه للربح الشخصي ، يخدم الصالح العام دون أن يدري وربما حتى دون أن يقصد.
    هل الليبي كسول حقا ؟
    ثمة ظواهر متداخلة: مثلا المحلات التجارية، خاصة البقالة، يديرها عمال وافدون، مثلا سودانيون في بنغازي. أما الصيدليات والبوتيكات فالباعة فلسطينيين وفلسطينيات من مواليد ليبيا. ورش الحدادة والسيارات تشغل مصريون وسودانيون في الغالب. البناء والزليز والسباكة، شوام أو مصريون. الكناسين والخفرة وعمال المزارع والرعاة سودانيون وتشاديون. وهكذا. في النهاية عندنا بطالة بين الليبيين ، ومواطن عمل كثيرة يشغلها وافدون.
    شباب ليبيون كثيرون عند النواصي. بالمقابل يقولون لك الليبي كسول ، ولا يريد أن يكتسب مهارة ، ومشاكس ولا يلتزم بالوقت وغير مطيع.
    عامل الكسل موجود، الميل لاكتساب المهارات والعمل اليدوي ضعيف، لكن المشكلة في المناهج الدراسية التي تدرس كل شئ بالحفظ والاستظهار، حتى مادة التقنية التي تنتهي إلى حفظ مسميات غريبة ورسومات معقدة وكثيرا ما تكون خاطئة، دون أن يرى الطفل وصلة جعب أو دائرة كهربائية والتي يمكن أن تعدها المدرسة بتكلفة بضع دينارات. ولماذا لا يجند الشباب العاطل والمتسكع في دورات أو ورش عمل لتعليم المهارات الحرفية ؟ ولماذا لا يلزم كل أسطى ومقاول بتدريب ليبيين ، مقابل حوافز.
    المشكلة الرئيسية في ظني تكمن في غياب ثقة صاحب العمل ، ليس في قدرات الشاب الليبي ولكن في القانون. صاحب العمل متخوف من تشغيل الليبي في دكان أو قرطاسية أو ورشة، خشية " أن يأت يوم يطلـّـعه من المحل". نعم التجاوزات القديمة اختفت ، لكن صاحب العمل له الحق في الحماية القانونية.
    ومع هذا لا أخفي إعجابي ببعض المحلات، أصحابها ليبيون، وعمالها كلهم شباب ليبي نشط واخذ حقه وأمين .. مثلا سوبرماركت الزيتون أو ذاك المقابل لمدرسة يوسف بوكر، ومغسلة الرملي في الكيش، ومركز النوق البيض لتصوير الخرائط .. وغيرها. أصحاب مثل هذه المحلات أكيد لديهم سمات استثنائية جديرة بالتأمل!
    ومرة أخرى ، أصحاب العمل قد يكون منهم المستغل والسئ لكن القاعدة تبقى أن معظم البشر أمناء وملتزمون بالأخلاق والعرف والدين والقانون. كما لا ننسى أن قوانين السوق والمنافسة والتطور التقني الذي يقود باستمرار إلى تقليص أسعار السلع، كلها ضوابط تمنع استغلال المستهلكين.
    هذه كلها تكيفات ضرورية، للخروج من المأزق الحالي وللتعايش مع الاقتصاد العالمي الذي أمسى محكوما بقوانين السوق. ولكنه تكيف أيضا لمواجهة الأزمات المتوقعة في منطقتنا نتيجة التكاثر السكاني ونضوب موارد الغذاء، وما يسميه الخبراء "بحروب الماء" القادمة.
    أين العين المجردة ؟
    ما قصة العين المجردة إذن؟
    قبل نصف قرن كان هناك مدرس في المرج. وجاء مفتش من منظمة اليونسكو ، ونصَحَ بالتركيز على الجانب التطبيقي في تدريس العلوم ، مثل زرع نباتات وأن يسجل التلاميذ مشاهداتهم عليها وتأمل تركيبها على الطبيعة وغير ذلك. فاشتكى المدرس بأن ليس لديهم مكروسكوب في المدرسة. فرد المفتش أولا بأن الأمر لا يحتاج إلى مجهر مثلا لدراسة تفـرعات ساق النبات أو أشكال الأوراق ، ولكنه وعد بتزويد المدرسة بمكروسكوب. وعندها سأل المدرس: " المكروسكوب آهو صار منـّه .. لكن العين المجردة وين نلـقــــوها ؟ ".

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 3:45 pm